مجزوءة الوضع البشري
تقديم عام
عادة ما يتصور البعض أن "الإنسان-الذات"، وحدة تتمتع باستقلال كلي أو شبه كلي عما يحيط بها من أشياء وكائنات، ومرد ذلك إلى كونهم ينظرون إليه من خلال معطاه البيولوجي فقط، متناسين في ذلك أن هناك معطيات أخرى تتدخل في تحديد ماهية الكائن الإنساني، فهذا الأخير ليس وحدة بيولوجية فحسب، ولا حتى اجتماعية، وإنما هو "كل مركب"، تتداخل فيه جملة من المحددات، تشكل في الأخير ما تواضع المفكرون على تسميته بـ: "الوضع البشري" Statut humain.
هكذا فالوضع البشري هو ما يحصر الذات الإنسانية ويحددها في مختلف مستويات الوجود. إنه وضع يتميز بالازدواجية: فالإنسان إذ يوجد في هذا العالم، يعيش مع الآخرين ويدخل في علاقات عمل وانتماء، ويخضع لقيود يضعها المجتمع، وهو قبل كل ذلك، كائن هش معرض للمرض ومهدد في كل لحظة أن يفقد هذا الوجود ذاته، رغما عنه وبدون إرادته، لكن هذا الإنسان الذي لا يستطيع التخلص من وضعه المشروط بسلسلة من الضرورات، هو الكائن الوحيد الذي يستطيع الابتعاد عن وضعه البشري وأن يختار نمط وجوده في هذا العالم، بفضل الوعي والتفكير. وهذا التباعد والتعالي للإنسان على وضعه البشري لا يتم بفضل الوعي وتطوير قدراته الفكرية فقط، ولكن كذلك - وأساسا- بفضل علاقاته الاجتماعية. فالإنسان ليس فردا يعيش معزولا عن الآخرين، بل لا يدرك وجوده هذا إلا بالمشاركة والتعايش داخل المجموعة البشرية التي بفضلها يقبل وجوده النسبي وينفتح على الكون، مهما كان تمن ذلك غاليا.
يتحدد وجود الإنسان إذن من زاويتين، موضوعية وذاتية، فالوضع البشري - لا الطبيعة الإنسانية- هو ما يشكل الكوني في الإنسان. وهذا الوضع، فيما يرى سارتر، هو مجموعة من الحدود القبلية التي ترسم الوضعية الأساسية للإنسان. فالأوضاع التاريخية تتباين، والإنسان يمكن أن يولد حرا أو مقيدا، كما في بعض المجتمعات القديمة، عاملا أو فلاحا، لكن ما لا يتغير بالنسبة إليه هو ضرورة أن يوجد في العالم، وسط الآخرين ويكون فانيا.
أما على المستوى الذاتي، فإن كل واحد يحاول، بوصفه شخصا، وبواسطة مشروعه الذي اختاره بصفته شخصا أخلاقيا وحقوقيا، أن يتحمل الحدود المفروضة عليه، إما برفضها أو قبولها أو تجاوزها، الأمر الذي يؤسس علاقة تفاعل بين الذوات، وبالتالي يكون تفهم الغير ممكنا، بل أكثر من ذلك يصبح الإنسان فاعلا تاريخيا، يعطي للأحداث المعنى الذي يريده.
إن الحديث عن الوضع البشري، يجعلنا نخلص إلى أن الإنسان كائن متعدد الأبعاد: فهو ذات مفردة تنمو وتتطور من خلال احتكاكها بالعالم الخارجي، وتفاعلها مع ذوات أخرى تتقاسم معهم هذا الوجود. فهي تمتلك ملامح نفسية ووجدانية وذهنية خاصة وتحكمها بنية نفسية وتمتلك الوعي والفكر مما يجعلها تعي ذاتها ووضعها وتمتلك الحرية والإرادة.
بحيث تستطيع أن تجابه وضعها وأن تتعالى عليه وقادرة على تجاوز الضرورات التي يفرضها عليها. ولا يتحقق لها ذلك لمجرد كونها ذات واعية مفكرة مسؤولة أخلاقيا وقانونيا وتمتلك الحرية والإرادة بل يتحقق لها ذلك بفعل تفاعلها مع الغير ومن خلال العلاقات التي تنسجها معه فوعيها لا يكتمل إلا من خلال اعتراف الغير بها فوجود الذات يقتضي وجود الغير الذي يقتسم معه الوسط الاجتماعي الثقافي ويعيش معه في مجتمع تحكمه مؤسسات ويخضع لسيرورة تاريخية.
وهكذا يحيلنا الحديث عن الوضع البشري على مجموعة من التساؤلات منها:
ما هو الشخص؟ وما هي طبيعته؟ وكيف تتحدد هويته؟ من أين يستمد الشخص قيمته؟ إلى أي حد يمتلك الحرية والإرادة ويستطيع تجاوز أوضاعه وشروط وجوده؟ هل وجود هذا الغير ضروري لوجود الذات؟ أم أن وجوده يشكل تهديدا لهذه الأخيرة؟ هل يمكن معرفة الغير، أم أن معرفته مستحيلة؟ ما هي طبيعة العلاقة مع الغير؟ هل هي علاقة صداقة وتفاهم، أم علاقة تنافر وصراع وتصادم؟
تعليقات
إرسال تعليق